
هل هناك علاقة بين الحقل الأكاديمي والحقل السياسي؟ وإذا كان هناك علاقة، فما طبيعتها؟
وهل يمكن أن تؤثر الدراسات الأكاديمية إيجابياً في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني؟ وفي تثبيت الرواية الفلسطينية التاريخية؟
وما دلالة ازدياد عدد وحجم ونوعية الدراسات الفلسطينية، ودلالة وجود أقسام خاصة في بعض الجامعات العربية والغربية للدراسات الفلسطينية، تلك التي تضم باحثات وباحثين فلسطينيين وعرباً وأجانب؟
هل حدث تحول في الموقف الأميركي أو والأوروبي تجاه فلسطين؟ وماذا عن التغير في مواقف بعض الدول العربية، وأهمها تلك الدول التي جنحت إلى التطبيع؟
كيف يتجسّد الاستيطان الاستعماري على أرض فلسطين؟ وكيف وبأي أشكال يقاومه الفلسطينيون؟ وهل يؤثر انقسامهم على هذه المقاومة؟
وما الذي تحمله ذاكرة النكبة؟ وما التغيرات التي طرأت على القضية الفلسطينية؟ وبناء على ذلك، ما أشكال وصور التحديات التي تواجهها؟
هل يمكن أن تكون هذه الدراسات أحد الأسلحة التي يحملها الفلسطينيون، في وجه الاستعمار الاستيطاني العنصري، وفي وجه محاولات تشويه روايتهم التاريخية؟
أسئلة مشروعة، وغيرها، استدعاها، وأجاب عنها، بشكل عملي، عدد من الباحثات والباحثين الفلسطينيين والعرب والأجانب، الذين قدّموا نحو اثنتين وستين ورقة بحثية محكّمة، في جلسات «المنتدى السنوي لفلسطين 2023»، من تنظيم «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، و»مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، في الدوحة، خلال الفترة: 28-30 كانون الثاني 2023.
بالإضافة إلى خمس عشرة ورقة علمية قدّمت ضمن «ندوة مجلة أسطور للدراسات التاريخية في فلسطين»، التي استمرّت يومين، ونظمت على هامش المنتدى.
*****
كان من اللافت في أعمال المنتدى، وندوة أسطور للدراسات التاريخية، ذلك الزخم والغنى في الأوراق العلمية المطروحة، وكان لافتاً ومبشراً الوجود البحثي الفاعل للشباب، خاصة الشابات، ضمن أعمال المنتدى.
كما كان لافتاً تفضيل عدد كبير من الباحثات والباحثين العرب إلقاء مداخلاتهم/ن باللغة الإنجليزية، رغم وجود إمكانيات الترجمة لمن لا يعرفون اللغة العربية. وأعتقد أن دراسة معظم الباحثات والباحثين في الجامعات الغربية، أو إقامتهم الطويلة وعملهم الأكاديمي هناك، جعلهم/ن يعبِّرون عن أفكارهم بشكل أفضل باللغة الإنجليزية، وهذا يستدعي الاهتمام بشكل أكبر باللغة العربية، كما يستدعي الترجمة منها وإليها.
*****
عقدت ندوة أسطور جلساتها، خلال يومين، تحت عنوان: «الكتابة التاريخية في فلسطين: في استرجاع التاريخ المسروق».
أكّد المشاركون/ات على أهمية تنويع المصادر من أجل الكتابة التاريخية؛ الوثائق الفلسطينية في الأرشيف العثماني، وسجلات المحاكم الشرعية، والطابو، والصور الفوتوغرافية، والمصادر البصرية كافة، وأرشيف المستعمِر، وأرشيفات المستشرقين/ات، والسرديات الأجنبية، والأرشيفات الشعبية، والرواية الشفوية، وأرشيف النضال الفلسطيني اليومي.
كما أكّدوا على أهمية الاستفادة من الحقول المعرفية، التي تتقاطع مع الدراسات التاريخية: علم الاجتماع، والسياسة، والأدب، ودراسات المرأة، والصحافة..إلخ. وبيّنوا أهمية وضرورة كتابة تاريخ الفلسطينيين حين يكتب تاريخ فلسطين.
تناولت الأوراق العلمية الأرشيف الفلسطيني، والأرشيف الاستعماري، وروايات النساء الشفوية، ووقفت بشكل خاص على الجانب المعماري لمدينة القدس.
ركزت الأوراق التي تناولت الأرشيف الفلسطيني على أهمية النظر إليه، ليس كمحتوى للمعلومات والحقائق التاريخية فحسب؛ بل كمحتوى يتيح المقارنة، والتحليل، والتأريخ، وكشف المسكوت عنه، والمنسي، كما ركّزت على أهمية تضمين الأرشيف الغني للنضال الفلسطيني اليومي، الذي لا يتم تضمينه في السرديات السياسية.
أما الأوراق التي تناولت أرشيف المستعمِر - الصحف الإسرائيلية، والمراسلات بين الباقين في البلاد ومؤسسات المجتمع المحلي، ووثائق ذات صلة إدارية بهم - فقد أكّدت على أن هذا الأرشيف يمكن أن يكون مصدراً مهماً يستعيد من خلاله المستعمَر بعضاً من تاريخه المسروق، وبيّنت ضرورة النظر بشكل نقدي إلى هذا الأرشيف، بوصفه فعلاً تحررياً.
*****
كانت هناك أهمية كبرى للوقفة الأكاديمية لموضوع الأرشيف الفلسطيني، الذي جرت وما زالت تجري محاولة سرقته، وحرقه، وتشويهه، وتدميره منذ العام 1947 وحتى الآن.
بالإضافة إلى سرقة العديد من الوثائق قبل وإثر النكبة عام 1948، ثم عام 1967، سلب المحتلّ الصهيوني أكثر من نصف محتويات مركز الأبحاث، التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، في بيروت عام 1982، ثم احتلّ المركز وحطّم أثاثه ومحتوياته، خلال اجتياح بيروت في العام ذاته، ولم يكتف بذلك، بل نسف المكتب كاملاً في شباط عام 1983.
*****
ضمن ورشة عمل نظمها المنتدى، تمّ الإعلان عن إطلاق ثلاثة مواقع إلكترونية تفاعلية فلسطينية: موقع «ذاكرة فلسطين»، المرحلة الأولى، الذي أطلقه «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، والمشروع الرقمي «الموسوعة التفاعلية الفلسطينية»، الذي أطلقته «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، والذي نفّذته بالتعاون مع «المتحف الفلسطيني»، والموقع المتخصص في تاريخ القدس، وروايات القدس، باللغة الإنجليزية: «القدس: القصة كاملة».
عبر تصفح المواقع الثلاثة يتبدّى واقع الاحتلال الاستعماري الصهيوني لأرض فلسطين، وأثره التدميري، وتتبدّى مقاومة الشعب العنيدة لهذا الاحتلال، وعبر الذاكرة الجماعية الحيّة، التي تتجسّد من خلال روايات بناته وأبنائه، تحضر الرواية التاريخية الفلسطينية.
وحين التفاعل مع هذه المواقع المهمة، تحضر فلسطين، قبل وبعد العام 1948، الوطن الفلسطيني ببهائه، وعلمائه، ومفكريه، وأدبائه، ومثقفيه، وعمّاله، وفلاحيه، وبحجارته، ووديانه، وجباله، وبحره.. تحضر فلسطين أرضاً وشعباً.