
بعد خمسة أيام على الزلزال التركي السوري، تعلن وزارة الخزانة الأميركية السماح لجهود ومواد الإغاثة الإنسانية بالوصول إلى سورية، القرار ذكر أنه بمثابة استثناء محدود ممّا يُسمى قانون قيصر، وأضافت: إن القرار سيبقى ساري المفعول مدة ستة أشهر، بواقع 180 يوماً تنتهي في الثامن من شهر آب القادم.
القرار الأميركي سبقه بساعات القرار الأوروبي بذات المضامين الإغاثية، ويعود التردد الأوروبي والأميركي في التقدم للمساهمة في عمليات إنقاذ ضحايا الزلزال في المناطق السورية حصراً، إلى ما عُرِف بالعقوبات على سورية، وقانون قيصر الكريه الذي يقضي بفرض عقوبات جماعية تطال كل شيء.
تسييس عمليات الاستجابة لإغاثة الضحايا السوريين في المناطق التي تعرضت للزلزال، من دون النظر إلى الواجب الإنساني، يُدلل على مدى الانحدار الأخلاقي الذي وصل له العالم الغربي على وجه الخصوص، ويؤشر على تلاشي الحسّ الآدمي الإنساني وقتلٍ مع سابق ترصد للقيم والأخلاق النبيلة، وانهيارها في برهان جديد على سقوط أخلاقي مدوٍّ في امتحان الإنسانية، ومن بين المفارقات يبرز التناقض الصارخ بين مسار التقدم العلمي والتقني والصناعي لتلك الدول المعنية مع مسار التقدم الأخلاقي والقيمي. وللتمويه على التناقض السافر بينهما، تتم التغطية من خلال سفك المشاعر التضامنية الزائفة مع الشعب السوري المنهك.
الحقيقة، أننا نعجز عن إيجاد القالب الملائم لنضع فيه مشاعرنا تجاه ما يحدث، وما نراه على الشاشات، لا وصف يرضينا للكم الهائل للمفردات التضامنية، ومصطلحات الاستجابة الإنسانية كشعار غربي جميل، ومعانيهم البشرية المقدسة، حين يعمل فيها الواقع تجويفاً وتفريغاً ويتركها في المكان، تتصدّعُ ببرود سياسي مع تصدع بيوت المنكوبين.
فما معنى نجاة طفل رضيع بالصدفة البحتة بينما تنسحق أمه بقربه مصطحبة معها اسمه وحليبه وملاذه ودفئه وأغنياته وذاكرته، نقف حائرين بين التهليل لنجاة الطفل الرضيع من الموت، وهو انتصار بشري عظيم حقاً، وبين الموت والبقاء مع أمه لترضعه وتهدهده وتحقق ما خططت لحياته من أحلام في السماء. وهل نجاة أب بأعجوبة أفضل، أم الموت مع عائلته أفضل.. وأي حياة بانتظاره!
بين دمار الزلزال والحصار الخانق يعيش السوريون، وتعيش المناطق السورية التي أحالها الصراع المسلح الدائر منذ العام 2011 إلى خراب شامل، تاركاً آثاراً صعبة الزوال، من الخوف والحزن والفقد والانكسار والوحشة، حافراً في وجدان السوريين وذاكرتهم ومدنهم وبيوتهم ومعالم حياتهم وقصصهم وحوارهم ألماً غائراً لا يشفى، ومخلفاً ندوباً صعبة الزوال، قتلتهم وشردتهم وهجرتهم وشطرتهم، لتأتي ذاكرة الزلزال وتدمر ما بقي من بيوت وأحلام ومشاعر واغتراب، لتجعلهم بقايا عائلات ومخلفات أماكن وأسماء.
«قانون قيصر» الذي يعود في اسمه إلى اسم الضابط السوري الذي قدم لألمانيا صور السجون السورية، وعليه تم تشريع الحصار الاقتصادي على سورية وشعبها في إطار العقوبات الجماعية على الشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني الذي يكتوي بنار العقوبات الجماعية وتفاصيلها الجهنمية يومياً، وتحميلها أعباء خيارات وتحالفات أنظمتها دون أن تشارك باتخاذ المواقف أو تشارك في رسم الخيارات، ولا يد لها في مواقف أنظمتها وانحيازاتها.
على ماذا يدل إيقاع العقوبة الجماعية على الشعب السوري، وعلى الضحايا السوريين بالتحديد، سوى على العنصرية والتمييز ضد الإنسان بسبب جنسيته؟ ويدلُّ على النفاق الدوليّ والإنسانيّة المجزّأة اللذين ظهرا بأبشع صورها منذ الساعات الأولى لوقوع الكارثة، ويشير إلى اللامبالاة بحيوات ملايين الناس بسبب الأجندات السياسية والنفاق والتذيُّل للولايات المتحدة، وبأن حجم المأساة لم ينجح في تحريك الضمائر.
ماذا يعني التلكؤ في اتخاذ قرار الاستجابة الإغاثية سوى على اتصاف دوائر القرار الدولي وطبقته السياسية بالصفاقة؟ وتتذرع «بقانون قيصر» على الرغم من العِلم أن بعض المناطق التي تعرضت للزلزال، مثل ريف حلب ومعظم محافظة إدلب، لا تقع تحت سيطرة النظام السوري، بل تقع تحت سيطرة متعددة الأطراف كجبهة النصرة ومجموعات كردية وتركية ومعارضة سورية متنافرة، وتقاسمهم السيطرة مع النظام، والسيطرة في جميع الأحوال متغيرة.
أزمة الزلزال أعادت الأزمة السورية للواجهة، من هنا لا بد من البدء في تقديم الحلول السياسية من قبل الدول العربية، خلال فترة الستة شهور المسجلة في قرار رفع العقوبات المؤقت عن سورية، ملاحظين إيجابية استجابة عديد الدول العربية لواجبات الإغاثة وتقديم العون للمناطق المنكوبة، الأمر الذي من المفترض التقدم بأجندة سياسية تخلص الشعب من عذاباته التي تفوق الوصف، أجندة عربية تستجيب لروابط العروبة وتحيّد نفسها عن التحكم السياسي الأميركي.
عن الأيام